فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
قد مضى في البقرة وأنه ناسخ لجميع ما ورد في الشرع من تكليف ما لا يطاق.
{وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق} أظهر ما قيل فيه: إنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة؛ وأضافه إلى نفسه لأن الملائكة كتبت فيه أعمال العباد بأمره، فهو ينطق بالحق.
وفي هذا تهديد وتأييس من الحَيْف والظلم.
ولفظ النطق يجوز في الكتاب؛ والمراد أن النبيين تنطق بما فيه.
والله أعلم.
وقيل: عنى اللوح المحفوظ، وقد أثبت فيه كل شيء، فهم لا يجاوزون ذلك.
وقيل: الإشارة بقوله: {ولدينا كتاب} القرآن، فالله أعلم، وكل محتمل والأوّل أظهر.
قوله تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا} قال مجاهد: أي في غِطاء وغفلة وعَماية عن القرآن.
ويقال: غمره الماء إذا غطاه.
ونهر غَمْر يغطّي من دخله.
ورجل غمر يغمره آراء الناس.
وقيل: {غمرة} لأنها تغطّي الوجه.
ومنه دخل في غُمار الناس وخُمارهم، أي فيما يغطيه من الجمع.
وقيل: {بل قلوبهم في غمرة} أي في حَيْرة وعَمًى؛ أي مما وصف من أعمال البر في الآيات المتقدمة؛ قاله قتادة.
أو من الكتاب الذي ينطق بالحق.
{وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} قال قتادة ومجاهد: أي لهم خطايا لابد أن يعملوها من دون الحق.
وقال الحسن وابن زيد: المعنى ولهم أعمال رديئة لم يعملوها من دون ما هم عليه، لابد أن يعملوها دون أعمال المؤمنين، فيدخلون بها النار، لما سبق لهم من الشِّقوة.
ويحتمل ثالثًا: أنه ظلم الخلق مع الكفر بالخالق؛ ذكره الماوردي، والمعنى متقارب.
{حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب} يعني بالسيف يوم بدر؛ قاله ابن عباس.
وقال الضحاك: يعني بالجوع حين قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اشدد وطأتك على مُضَرَ اللَّهُمَّ اجعلها عليهم سنينَ كسِنِيّ يوسف» فابتلاهم الله بالقحط والجوع حتى أكلوا العظام والميتة والكلاب والجِيف، وهلك الأموال والأولاد.
{إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} أي يضجّون ويستغيثون.
وأصل الجُؤار رفع الصوت بالتضرع كما يفعل الثور.
وقال الأعشى يصف بقرة:
فطافت ثلاثًا بين يوم وليلة ** وكان النكير أن تُضِيف وتجأرا

قال الجوهري: الجؤار مثل الخوار؛ يقال: جأر الثور يجأر أي صاح.
وقرأ بعضهم: {عِجْلًا جَسَدًا لَهُ جؤار} حكاه الأخفش، وجأر الرجل إلى الله عز وجل تضرع بالدعاء.
قتادة: يَصْرُخون بالتوبة فلا تقبل منهم. قال:
يراوح من صلوات المَلِيك ** فطَوْرًا سجودًا وطَوْرًا جؤارا

وقال ابن جريج: {حتّى إذَا أخذنا مُتْرَفِيهِمْ بالْعَذَابِ} هم الذين قتلوا ببدر {إذا هم يَجْأَرُونَ} هم الذين بمكة؛ فجمع بين القولين المتقدمين، وهو حسن.
{لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا} أي من عذابنا.
{لاَ تُنصَرُونَ} لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم.
وقال الحسن: لا تنصرون بقبول التوبة.
وقيل: معنى هذا النهي الإخبارُ؛ أي إنكم إن تضرعتم لم ينفعكم.
قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} الآيات يريد بها القرآن.
{تتلى عَلَيْكُمْ} أي تقرأ.
قال الضحاك: قبل أن تعذبوا بالقتل و{تَنكِصُونَ} ترجعون وراءكم.
مجاهد: تستأخرون؛ وأصله أن ترجع الْقَهْقَرَى.
قال الشاعر:
زعموا بأنهمُ على سُبُل النّجا ** ة وإنما نُكُصٌ على الأعقاب

وهو هنا استعارة للإعراض عن الحق.
وقرأ على بن أبي طالب رضي الله عنه {على أدباركم} بدل {على أعقابكم}، {تنكصون} بضم الكاف.
{مُسْتَكْبِرِينَ} حال، والضمير في {به} قال الجمهور: هو عائد على الحرم أو المسجد أو البلد الذي هو مكة، وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في الأمر؛ أي يقولون نحن أهل الحرم فلا نخاف.
وقيل: المعنى أنهم يعتقدون في نفوسهم أن لهم بالمسجد والحرم أعظمَ الحقوق على الناس والمنازل؛ فيستكبرون لذلك، وليس الاستكبار من الحق.
وقالت فرقة: الضمير عائد على القرآن من حيث ذكرت الآيات؛ والمعنى: يُحدث لكم سماع آياتي كبرًا وطغيانًا فلا تؤمنوا به.
قال ابن عطية: وهذا قول جيد.
النحاس: والقول الأوّل أولى، والمعنى: أنهم يفتخرون بالحرم ويقولون نحن أهل حرم الله تعالى.
قوله تعالى: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} {سامِرًا} نصب على الحال، ومعناه سُمّارا، وهم الجماعة يتحدثون بالليل، مأخوذ من السَّمَر وهو ظل القمر؛ ومنه سُمرة اللون.
وكانوا يتحدثون حول الكعبة في سَمَر القمر؛ فسمّي التحدث به.
قال الثوري: يقال لظل القمر السَّمَر؛ ومنه السُّمْرة في اللون، ويقال له: الفَخْت؛ ومنه قيل: فاختة.
وقرأ أبو رَجَاء {سُمّارا} وهو جمع سامر؛ كما قال:
ألستَ ترى السُّمارَ والنّاسَ أحوالي

وفي حديث قَيْلة: إذا جاء زوجها من السامر؛ يعني من القوم الذين يَسْمُرون بالليل؛ فهو اسم مفرد بمعنى الجمع، كالحاضر وهم القوم النازلون على الماء، والباقر جمع البقر، والجامل جمع الإبل، ذكورتها وإناثها؛ ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5] أي أطفالًا.
يقال: قوم سَمْر وسُمَّر وسامِر، ومعناه سهر الليل؛ مأخوذ من السَّمَر وهو ما يقع على الأشجار من ضوء القمر.
قال الجوهري: السامر أيضًا السُّمّار، وهم القوم الذين يَسْمُرون؛ كما يقال للحاج حُجّاج، وقول الشاعر:
وسامرٍ طال فيه اللّهْوُ والسّمَرُ

كأنه سمى المكان الذي يجتمع فيه للسمر بذلك.
وقيل: وحّد سامرًا وهو بمعنى السُّمار؛ لأنه وضع موضع الوقت، كقول الشاعر:
مِن دونهم إن جئتَهم سَمَرًا ** عزفُ القِيَانِ ومَجْلِسٌ غَمْرُ

فقال: سَمَرًا، لأن معناه: إن جئتهم ليلًا وجدتهم وهم يسمرون.
وابنا سَمِير: الليل والنهار؛ لأنه يُسْمَر فيهما، يقال: لا أفعله ما سَمَر ابنا سمِير أبدًا.
ويقال: السَّمير الدهر، وابناه الليل والنهار.
ولا أفعله السَّمَرَ والقمرَ؛ أي ما دام الناس يَسْمُرون في ليلة قمراء.
ولا أفعله سَمِيرَ الليالي.
قال الشَّنْفَرَى:
هنالك لا أرجو حياةً تَسُرُّنِي ** سَميرَ الليالي مُبْسَلًا بالجرائر

والسَّمَار بالفتح اللبن الرقيق.
وكانت العرب تجلس للسمر تتحدّث، وهذا أوجب معرفتها بالنجوم؛ لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب.
وكانت قريش تَسْمُر حول الكعبة مجالس في أباطيلها وكفرها، فعابهم الله بذلك.
و{تُهْجِرون} قرئ بضم التاء وكسر الجيم من أهجر، إذا نطق بالفحش.
وبنصب التاء وضم الجيم من هَجَر المريضُ إذا هَذَى.
ومعناه: يتكلمون بهوَس وسَيِّىء من القول في النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي القرآن؛ عن ابن عباس وغيره.
الثانية: روى سعيد بن جُبيرِ عن ابن عباس قال: إنما كُره السّمر حين نزلت هذه الآية {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ}؛ يعني أن الله تعالى ذمّ أقوامًا يَسْمُرون في غير طاعة الله تعالى، إما في هَذَيان وإما في إذاية.
وكان الأعمش يقول: إذا رأيت الشيخ ولم يكتب الحديث فاصفعه فإنه من شيوخ القمر؛ يعني يجتمعون في ليالي القمر فيتحدّثون بأيام الخلفاء والأمراء ولا يحسِن أحدهم يتوضأ للصلاة.
الثالثة: روى مسلم عن أبي بَرْزَة قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبلها والحديثَ بعدها».
قال العلماء: أما الكراهية للنوم قبلها فلئلا يعرّضها للفوات عن كل وقتها أو أفضل وقتها؛ ولهذا قال عمر: فمن نام فلا نامت عينه؛ ثلاثًا.
وممن كره النوم قبلها عمر وابنه عبد الله وابن عباس وغيرهم، وهو مذهب مالك.
ورخص فيه بعضهم، منهم على وأبو موسى وغيرهم؛ وهو مذهب الكوفيين.
وشرط بعضهم أن يجعل معه من يوقظه للصلاة.
وروي عن ابن عمر مثله، وإليه ذهب الطحاوي.
وأما كراهية الحديث بعدها فلأن الصلاة قد كفرت خطاياه فينام على سلامة، وقد ختم الكُتّاب صحيفته بالعبادة؛ فإنْ هو سَمَر وتحدّث فيملؤها بالهَوَس ويجعل خاتمتها اللغو والباطل، وليس هذا من فعل المؤمنين.
وأيضًا فإن السمر في الحديث مظنة غلبة النوم آخر الليل فينام عن قيام آخر الليل، وربما ينام عن صلاة الصبح.
وقد قيل: إنما يكره السمر بعدها لما روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والسَّمَرَ بعد هَدْأة الرجل فإن أحدكم لا يدري ما يبث الله تعالى من خلقه أغلِقوا الأبواب وأَوْكُوا السقاء وخَمّروا الإناء وأطفِئوا المصابيح» وروي عن عمر أنه كان يضرب الناس على الحديث بعد العشاء، ويقول: أَسُمرًا أوّلَ الليل ونومًا آخره! أريحوا كُتّابكم.
حتى أنه روي عن ابن عمر أنه قال: «من قرض بيت شعر بعد العشاء لم تقبل له صلاة حتى يُصبح».وأسنده شدّاد بن أوْس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد قيل: إن الحكمة في كراهية الحديث بعدها إنما هو لما أن الله تعالى جعل الليل سَكَنا، أي يُسكن فيه، فإذا تحدّث الإنسان فيه فقد جعله في النهار الذي هو متصرف المعاش؛ فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله تعالى التي أجرى عليها وجوده فقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاسًا والنوم سُبَاتًا وَجَعَلَ النهار نُشُورًا} [الفرقان: 47].
الرابعة: هذه الكراهة إنما تختص بما لا يكون من قبيل القُرَب والأذكار وتعليم العلم، ومسامرةِ الأهل بالعلم وبتعليم المصالح وما شابه ذلك؛ فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن السلف ما يدل على جواز ذلك، بل على ندبيّته.
وقد قال البخاريّ: باب السَّمَر في الفقه والخير بعد العشاء وذكر أن قُرّة بن خالد قال: انتظرْنا الحسن وراث علينا حتى جاء قريبًا من وقت قيامه، فجاء فقال: دعانا جيراننا هؤلاء.
ثم قال أنس: انتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى كان شطر الليل فجاء فصلى ثم خطبنا فقال: «إن الناس قد صَلّوْا وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة» قال الحسن: فإن القوم لا يزالون في خير ما انتظروا الخير.
قال: باب السمر مع الضيف والأهل وذكر حديث أبي بكر بن عبد الرحمن أن أصحاب الصُّفّة كانوا فقراء... الحديث. أخرجه مسلم أيضًا.
وقد جاء في حراسة الثغور وحفظ العساكر بالليل من الثواب الجزيل والأجر العظيم ما هو مشهور في الأخبار.
وقد مضى من ذلك جملة في آخر آل عمران والحمد لله وحده. اهـ.